أو كما تكلّمت الشمس | شعر

ماركوبيسكي

 

روتين يوميّ

 

في الوحدة

والروح تنحصر داخل الصدر

سجينةً

الغثيان إحساسٌ عَرَضِيٌّ

القيء ليس إلّا انفعالًا

لتيهٍ، هو الأكثر قوّةً

وصلابةً.

 

في الزحمة الخانقة

العرق الحمضيّ

ذكرى ميلاد الشهيد

الحرّيّة على المحكّ

والنظريّات تفقد بُعْدَها

 

فليسقط! فليسقط إذًا!

 

ذلك الأنا الوحيد

وسط الجماعة الغاشمة

والإحساس الجديدِ

بالكلّيّة الأكثر عنفًا

وصلابةً.

 

 في الغراميّات

على كلّ أنثى أن تَقْتَني شاعرًا

كما تَقْتَني زينة الليالي الساخنة

على كلّ شاعرٍ أن يرافق أنثاه

إلى موعدها

مع حبيبٍ آخر.

 

داخل الجزدان الصغير

رفقة أحمر الشفاه

والفوط الصحّيّة

يقبع منتظرًا

ولينتظر وحيًا سماويًّا

على طاولة المقهى

أكثر إغراءً وصلابةً.

 

في عينيها

وهي ترشف السيجارة

يبحث عن مرآته

وعن صورةٍ للقصيدة

يقتنص الطريدة في خياله

يكتب: "عيناها

إعدامٌ ميدانيٌّ"

تفتح شفتيها للدخان

يفتح صدره للمصادفةِ

العنيدةِ

 

عيناها ترى شيئًا

لا يعني لها شيئًا

عيناه ترى مأساةً

لها عينان

هي الأكثر سخريةً

وصلابةً.

 

بعد الكأس الأولى، الثانية، الثالثة...

المثانة ليست بمتانة النسيان

ها هو الآن واقفٌ، عارٍ

وسكرانٌ

المخدع يدور

والمِبْوَلَةُ تبتعد

الحرّيّة تبتعد

تغرق في الجدران

 

ها هو الآن واقفٌ

بإخلاصٍ للجسد، بإيمانٍ

بالسكر وبالإنسان

هو الأكثر واقعيّةً، وصلابةً.

 

على الوسادة

وحده، يفرش الأحلام

وعلى مضضٍ

يتابع "دورة الجسدين

في جسدٍ"

 

لوحةُ أصل الكون

رعشةٌ تحتدم

كباقي أمراض الشيخوخة

يقفز القلب كريشةٍ

لاهثًا وراء الخيال

 

تنفجر أضواءٌ تحت جفنيه

وفي رأسه

تهدأ الأنفاس داخل صدره

وحيدًا

يعانق نفسه والتفاهة

هي الأكثر عمقًا

وصلابةً.

 

 

لُونا

تنويع على إيقاع لوركا[1]

 

القمر يسكب حليبه

في جفنةٍ فضيّةٍ

الأرض تنحني

كي تغسل بالأبيض

لُونا قدميها

 

لُونا،

عيناها الناعستين

بحيرتا عسلٍ

القمر يسكب حليبه

والأرض جالسةٌ

تنتظر

 

هذا الفراغ

الّذي

يرمق الشهوة

بنظرةٍ

يروي النحاسَ 

على

فخذ المساء

المقطوعة

 

فكّي شعركِ، لُونا!

يتنفّس العالم.

 

والأفق يودّع حمرتَهُ الداكنة

حيث الكلمات براغيثُ صغيرةٌ

تكبتها حمّالة صدركِ

افتحي صدري!

ترفض الحرّيّة:

تهرب. 

 

جسدي حقلكِ

ها هو ذا، افلحيه

كلَّ شرور العالم

ودعيني معي، هنا،

جالسًا.

 

[1] في قصيدة «رومانسيّة القمر» لفيديريكو غاثيا لوركا، يحيل اسم لُونا على القمر، والّذي يأتي بلغة الشاعر الإسبانيّ مؤنّثًا. اختار مترجم القصيدة أن يحافظ على الاسم دون ترجمته، واحتفظتُ به كذلك أثناء الاقتباس.

 

مشاهد مبحرة

 

لكِ أذنان صغيرتان، لكِ أذناي،

ضعي ها هنا كلماتٍ موزونة

 

 

نيتشه إلى لو سالومي

 

-  المشهد الأوّل –

لو كان للسخرية مخلبٌ،

لاجترحتْ مِنْ حلم الشقيّ معنًى.

 

أرني حلمكَ الذابل أربّيه حمامًا بين نهديّ

اِتْبَعْني لأتبعكَ وأتْعِبَكَ 
أَتْعِبْني أعتصر ليلكَ نبيذ الكروم
اعتلي سوادي أصفرَ
واكسرني على ضوء نجمٍ يخالج الصدى.

المفردات تجرح المعنى، كأن تنطق 

الضحيّةُ: نفسي والقضيّة
خفقة جناحيْ فراشةٍ
 تصارع الله على حدود المدى.

 

-المشهد الثاني -

يا سيّد الأحجيات لم تكن الأمنيات،

ثديًا حليبيًّا وفرشًا. قلبي حويصلة أشعارٍ،

وظلّي يجثو عند عتباتي، يا وحش الخيال

لا قدرة للظلال، أن تبني من الشعر عرشًا.

 

(هامسًا الضدُّ في أذنه)

لما كنّا هنا لو كنت أنا ولا وُلِدَ الشعر.

لفتحتُ قلبي لو كنتُ ضدّي (باحثًا عن الله)؛  

حيث يوجد الله

يوجد القبر.

 

يموت أوديب، تنتهي الأسطورة...

ينبش عاشقٌ قبرَ أمّه، في قلب

امرأةٍ مقهورة.

 

- المشهد الثالث -

في الأسطورة،

الوقت يكفي كي تُنْجِبَ الملاحم طفلةً مسحورةً،

تطالع السماءَ والهواءَ مِنْ حولها يرسم

في قاع الفضاء إناء الزمان جرّةً مكسورةً.

يتزوّج البطلان ديونيزوس وآريان،

ويموت نيتشه، كما الله،

في نهاية الأسطورة.

 

 - المشهد الرابع -

أنا بحاجة شاعرٍ أصيلٍ، فهؤلاء الشعراء

لا يوجدون، وإن وُجِدوا فَهُم سيّئون...

الضفادع

الغد يعد بفحولةٍ عظمى:

في الغد سنعود جيرانًا

حميمين للأشياء المثيرة والساخنة...

نحن معشر الكلاب اللاهثين،

وراء سيّدة الأضواء الحائرة.

 

الأنثى تجربةٌ،

من ساديّة أوغُسْتْ كُونْت،

إلى الحتميّة الثائرة.

الأنثى تجربةٌ،

مُطلَقُ الواقع يفتل حبله،

من جديلة آمالٍ متغيّرة.

 

-  المشهد الخامس -

"آريان، أختاه، بأيّ حبٍّ جريحٍ

تموتين على ذات الضفّة الّتي تُهْجَرينَ عليها".

جان راسين، فيدر.

 

أيّ طريقٍ أقرب،

إلى قمّة الحكمة العالية؟

الهاوية!

الشمس ترحل كلّ مساءٍ،

إلى هاديسَ مدينة الموتى

الأبرياء.

أجسادٌ شاحبة لشعراءَ،

مرّوا من هنا

سعداءَ جدًّا

رحلوا

رحلةً أخيرةً واهيةً.

 

أيّ طريقٍ أقرب يا هيراكليس

يا بطل الحكمة الفانية؟

 

-المشهد الأخير-

نحن خلقنا الشعر

وإنّا له لحافظون.

 

الشعراء، عادةً،

يتبعهم المجنّدون،

في جيش المجاز.

النصّ كاذبٌ دائمًا،

لا النار تحرق لسانَها،

ولا العشّاق يموتون،

بالحمّى أو بالجنون.

 


 

سفيان البالي

 

 

شاعر وصحافيّ ومترجم مغربيّ. صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان «أو كما تكلّمت الشمس» (دار النهضة العربيّة ببيروت، 2021). ترجم عن اللغة الفرنسيّة أنطولوجيا شعريّة بعنوان «ذهب وظلّ جسدٌ واحد»، ومذكّرات «أماسي جورج شحادة» لكاتبهما الشاعر السويسريّ ماركوس هيدغر.